يقول
ابن رجب رحمه الله: (يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم القيامة يوم تبدو الفضائح)، يعني عملهم في الأمة هو النصح، كما قال تعالى عن أنبيائه وأوليائه: ((
وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ))[الأعراف:68] ((
وَأَنصَحُ لَكُمْ ))[الأعراف:62]، ((
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ *
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[يس:20-21] فهم لا يريدون شيئاً، ((
مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ))[الفرقان:57]، ((
لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ))[هود:29]، هكذا رسل الله الكرام ومن يتبعهم لا يريدون من الخلق مالاً، ولا دنيا، ولا منصباً، ولا جاهاً، إنما نصحاً وإشفاقاً ومحبة وحرصاً منهم أن يكون هؤلاء الناس على طريق الخير، الذي يؤدي بهم إلى سعادة الدارين، والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. يقول: (أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، وأولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه) كما قال الإمام
أحمد رحمه الله: [
لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه]، ما هو الشيء الذي يمكن أن ترتاح منه قبل أن تلقى الله؟ ما يمكن؛ لأن ما أمرك الله تعالى به فهو شاق، فقد أمرك بقول الحق، وقد يكون هذا مراً وصعباً وعظيماً على النفس، وأمرك بالجهاد، وهذا شاق عليك ومجهد لك، وأمرك بالصلاة، تقوم لصلاة الفجر، وإن كنت تؤثر النوم والفراش الوفير والدفء، فتقوم إلى الصلاة لتلبي داعي الله سبحانه وتعالى، وتنفق من مالك الزكاة الواجبة، أو الواجبات غير الزكاة، أو الصدقات، والمال أحب إليك، وهكذا تقاطع ابنك أو أخاك أو قريبك؛ لأنه أعرض عن طاعة الله مثلاً، وهكذا فلا راحة في الدنيا.ثم إن أعداء الله وأعداء الدعوة وأعداء الحق لا يتركونك ما دمت حياً، فلا يجد المؤمن الراحة الحقيقية إلا إذا تنزلت عليهم الملائكة: ((
أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ ))[فصلت:30] فدون لقاء الله لا يستطيع الإنسان أن يرتاح، حتى لو سلم من كل شيء فرضاً، فإنه لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة، فهو يخاف -والعياذ بالله- أن يختم له بخاتمة السوء، فهو دائم الخوف من الله سبحانه وتعالى، والخوف مما أمامه.فإذا بشر بهذه البشرى ولقي الله عليها ارتاح، ولهذا يقول: ((
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ))[الطور:26] كانوا مشفقين خائفين في الدنيا، فأصبحوا بعد ذلك آمنين مطمئنين، أبدل الله تعالى هذا بهذا، ((
لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ))[فاطر:35] ((
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ))[فاطر:34] إذاً: كانوا في الدنيا حزينين مشفقين وجلين خائفين؛ ولذلك جاءت الجنة لا حزن فيها ولا خوف ولا وجل، وإنما الطمأنينة، ((
وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ))[الفرقان:75]، ويبشرون بنعم الله تعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله، وإلى لقاء ومجالسة أحباب الله، الذين كانوا يحبونهم في الدنيا ولم يروهم، والآن يرونهم؛ لأنك أنت في الدنيا تحب كثيرين ولا تستطيع أن تراهم، لأسباب كثيرة جداً، أما من مات ممن تحب فهذا أمر قد سبق، فهل نستطيع أن نرى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في الدنيا؟ لا، لكن في الآخرة نراه بإذن الله تعالى.وأيضاً يأتي أقوام من بعدك تحبهم، لكنك ما رأيتهم، ولا تستطيع أن تعيش حتى تراهم، ففي الدنيا لا تستطيع أن تحصل فيها على كل شيء تريده، فهي ضيقة دائماً.لكن الآخرة من نعيمها أن الله يجمع لك بين هؤلاء وهؤلاء، فتلتقي بمن تحب، وأول شيء وأعظم محبوب هو الله عز وجل، فالمؤمنون يرون ربهم عز وجل، وهو أعظم نعيم في الجنة على الإطلاق.وترى من تحب من الماضين وإن كانوا قبلك بقرون، فلو أحببت أن ترى آدم عليه السلام، أو نوحاً عليه السلام، أو المؤمنين ممن نجوا مع نوح في السفينة، أو الصحابة، أو الأئمة كالإمام
أحمد -مثلاً- وأئمة الإسلام، وكل من تحب أن تراه، وكذلك الذين لم يأتوا بعد؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (
وددت لو أنا رأينا إخواننا -كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك- قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: لا، أنتم أصحابي، لكن إخواني قوم لم يأتوا ) هم الذين -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- الذين وجدوا الكتاب فاتبعوه، ولم يروه صلى الله عليه وسلم.فهذا يحصل في الجنة بإذن الله تبارك وتعالى، والشاهد أن المؤمن لا يجد راحة دون لقاء ربه.ثم قال: (قال
فتح الموصلي : المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين).وبعض هذه الأقوال والآثار المنهج فيها معروف، فهي قد تحكى ولا يعني أن تلتزم بها بكل دقة.ثم قال: (وقال
محمد بن النضر الحارثي: ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله، وما يكاد يسأم من ذلك).ولا شك أن من أحب الله تعالى حق المحبة، فإنه لا يمل القربة إلى الله ولا يسأم، ولا يكاد يسأم، لكن النفس البشرية من طبيعتها أنها تمل وتسأم، ولهذا ينبغي للمؤمن أن ينوع في العبادة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ألا يتكلف في العبادة ما لا يطيق: (
فإن الله لا يمل حتى تملوا ) فإذا سئمت أو مللت، أو كدت تسأم أو تمل من قراءة القرآن أو صلاة أو أي عمل فكف عنه فإن الله لا يمل حتى تملوا. ثم قال: (وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دأباً وشوقاً).ولذلك قال تعالى في الحديث القدسي: (
ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، فهكذا المحب لله لا يزال يتقرب إلى الله بكل شيء.ثم قال: (وأنشد بعضهم:
وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خدام)وهذا أيضاً مما ينبه عليه وهو إطلاق الخدمة على العبادة، وقد تجده أحياناً في كلام بعض العلماء، وأكثر من يستخدم ذلك
الصوفية ، والصحيح أن العبادة أجل من الخدمة.والأصح في حق الله تبارك وتعالى ألا نستخدم إلا الألفاظ الشرعية، فنقول: عبادته، ولا نقول: خدمته.ثم قال: (وأنشد آخر:
ما للمحب سوى إرادة حبه إن المحب بكل حال يصرع) وهذا أيضاً يؤكد ذلك، فهو كله في محبة الله تبارك وتعالى.